فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل المعنى على النفي، التقدير: إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كقوله: {رواسي أن تميد بكم} أي أن لا تميد، وأن تضلوا أي: لا تضلوا، فحذف لا.
وهذا التأويل فرار من إثبات إرادة الشرّ لأخيه المؤمن، وضعف القرطبي هذا الوجه بقول صلى الله عليه وسلم: «لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، لأنه أول من سن القتل» فثبت بهذا أنّ إثم القاتل حاصل انتهى.
ولا يضعف هذا القول بما ذكره القرطبي، لأن قائل هذا لا يلزم من نفي إرادته القتل أن لا يقع القتل، بل قد لا يريده ويقع.
ونصر تأويل النفي الماوردي وقال: إن القتل قبيح، وإرادة القبيح قبيحة، ومن الأنبياء أقبح.
ويؤيد هذا التأويل قراءة من قرأ إني أريد، أي كيف أريد؟ ومعناه استبعاد الإرادة ولهذا قال، بعض المفسرين: إنّ هذا الاستفهام على جهة الإنكار، أي: أني، فحذف الهمزة لدلالة المعنى عليه، لأن إرادة القتل معصية حكاه القشيري انتهى.
وهذا كله خروج عن ظاهر اللفظ لغير ضرورة وقد تقدم إيضاح الإرادة، وجواز ورودها هنا، واستدل بقوله: فتكون من أصحاب النار، على أنّ قابيل كان كافرًا لأنّ هذا اللفظ إنما ورد في القرآن في الكفار، وعلى هذا القول ففيه دليل على أنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ولا يقوي هذا الاستدلال لأنّه يكنى عن المقام في النار مدة بالصحبة.
{وذلك جزاء الظالمين} أي وكينونتك من أصحاب النار جزاؤك، لأنك ظالم في قتلي.
ونبه بقوله: الظالمين، على السبب الموجب للقتل، وأنه قتل بظلم لا بحق.
والظاهر أنه من كلام هابيل نبهه على العلة ليرتدع.
وقيل: هو من كلام الله تعالى، لا حكاية كلام هابيل، بل إخبار منه تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال الشوكاني:

قوله: {إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار} هذا تعليل لامتناعه من المقاتلة، بعد التعليل الأوّل وهو: {إِنّى أَخَافُ الله رَبَّ العالمين}.
اختلف المفسرون في المعنى فقيل: أراد هابيل إني أريد أن تبوء بالإثم الذي كان يلحقني لو كنت حريصًا على قتلك، وبإثمك الذي تحملته بسبب قتلي؛ وقيل المراد بإثمي الذي يختص بي بسبب سيأتي، فيطرح عليك بسبب ظلمك لي وتبوء بإثمك في قتلي.
وهذا يوافق معناه معنى ما ثبت في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم، فيؤخذ من حسنات الظالم فتزاد في حسنات المظلوم حتى ينتصف، فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات المظلوم فتطرح عليه»، ومثله قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] وقيل المعنى: إني أريد أن لا تبوء بإثمي وإثمك كما في قوله تعالى: {وألقى في الأرض رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] أي: أن لا تميد بكم.
وقوله: {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] أي: لا تضلوا.
وقال أكثر العلماء: إن المعنى: {إِنّى أُرِيدُ أَن تَبُوء بِإِثْمِى} أي: بإثم قتلك لي: {وَإِثْمِكَ} الذي قد صار عليك بذنوبك من قبل قتلي.
قال الثعلبي: هذا قول عامة المفسرين وقيل هو على وجه الإنكار: أي: أو إني أريد على وجه الإنكار كقوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ} [الشعراء: 22] أي أو تلك نعمة.
قاله القشيري، ووجهه بأن إرادة القتل معصية.
وسئل أبو الحسن بن كيسان: كيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه وأن يدخل النار؟ فقال: وقعت الإرادة بعد ما بسط يده إليه بالقتل، وهذا بعيد جدًّا، وكذلك الذي قبله. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنّى أُرِيدُ أَنْ تَبُوء بِإِثْمِى وَإِثْمِكَ} تعليل آخر لامتناعه عن البسط، ولما كان كل منهما علة مستقلة لم يعطف أحدهما على الآخر إيذانا بالاستقلال ودفعًا لتوهم أن يكون جزء علة لاعلة تامة، وأصل البوء اللزوم، وفي «النهاية»: أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي أي ألتزم وأرجع وأقر، والمعنى إني أريد باستسلامي وامتناعي عن التعرض لك أن ترجع بإثمي أي تتحمله لو بسطت يدي إليك حيث كنت السبب له، وأنت الذي علمتني الضرب والقتل، وإثمك حيث بسطت إلي يدك، وهذا نظير ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا {تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا في السماوات وَمَا في الأرض وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرة وَبَاطِنَةً وَمِنَ الناس مَن يجادل في الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كتاب مُّنِيرٍ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير وَمَن يُسْلِمْ} كذا في «الكشاف»، قيل: وفيه نظر لأن حاصل ما قرره أن على البادىء إثمه ومثل إثم صاحبه إلا أن يتعدى الصاحب فلا يكون هذا المجموع على البادىء، ولا دلالة فيه على أن المظلوم إذ لم يتعد كان إثمه المخصوص بسببه ساقطًا عنه اللهم إلا بضميمة تنضم إليه، وليس في اللفظ ما يشعر بها، ورده في «الكشف» بأنه كيف لا يدل على سقوطه عنه، وقوله عليه الصلاة والسلام: «فعلى البادىء» مخصص ظاهر، وقول «الكشاف»: «إلا أن الإثم محطوط» نفسير لقوله: «فعلى البادىء» وقوله: فعليه إثم سبه، ومثل إثم سب صاحبه تفسير لقوله: ما قالا، فكما يدل على أن عليه إثمًا مضاعفًا يدل على أن إثم صاحبه ساقط.
هذا ثم قال: ولعل الأظهر في الحديث أن لا يضمر المثل، والمعنى إثم سبابهما على البادىء، وكان ذلك لئلا يلتزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، والقول: بأنه إذا لم يكن لما قاله غير البادىء إثم، فيكف يقال: إثم سبابهما، وكيف يضاف إليه الإثم مشترك الإلزام؟ وتحقيقه أن لما قاله غير البادىء إثمًا وليس على البادىء، وليس بمناف لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] لأنه بحمله عليه عدّ جانيًا، وهذا كما ورد فيمن سن سنة حسنة أو سنة سيئة، نعم فيما نحن فيه العامل لا إثم له إنما هو للحامل، والحاصل أن سب غير البادىء يترتب عليه شيئان، أحدهما بالنسبة إلى فاعله وهو ساقط إذا كان على وجه الدفع دون اعتداء، والثاني: بالنسبة إلى حامله عليه وهو غير ساقط أعني أنه يثبت ابتداءًا لا أنه لا يعفى، وأورد في «التحقيق» أن ما ذكره من حط الإثم من المظلوم لأنه مكافىء غير صحيح لأنه إذا سب شخص لم يستوف الجزاء إلا بالحاكم، والجواب أن صريح الحديث يدل على ما ذكر في «الكشاف»، والجمع بينه وبين الحكم الفقهي أن السب إما أن يكون بلفظ يترتب عليه الحد شرعًا فذلك سبيله الرفع إلى الحاكم، أو بغير ذلك وحينئذ لا يخلو إما أن يكون كلمة إيحاش أو امتنان أو تفاخر بنسب ونحوه مما يتضمن إزراء بنسب صاحبه من دون شتم كنحو الرمي بالكفر والفسق فله أن يعارضه بالمثل، ويدل عليه حديث زينب وعائشة رضي الله تعالى عنهما، وقوله عليه الصلاة والسلام لعائشة: «دونك فانتصري» أو يتضمن شتمًا فذلك أيضًا يرفع إلى الحاكم ليعزره، والحديث محمول على القسم الذي يجري فيه الانتصار، وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما لم يعتد المظلوم» يدل عليه لأنه إذا كان حقه الرفع إلى الحاكم فاشتغل بالمعارضة عد متعديًا انتهى، وهو تفصيل حسن.
وقيل: معنى {بِإِثْمِى} بإثم قتلي، ومعنى {بإثمك} إثمك الذي كان قبل قتلي، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما وقتادة ومجاهد والضحاك، وأطلق هؤلاء الإثم الذي كان قبل، وعن الجبائي والزجاج أنه الإثم الذي من أجله لم يتقبل القربان وهو عدم الرضا بحكم الله تعالى كما مر، وقيل: معناه بإثم قتلي وإثمك الذي هو قتل الناس جميعًا حيث سننت القتل، وإضافة الإثم على جميع هذه الأقوال إلى ضمير المتكلم لأنه نشأ من قلبه، أو هو على تقدير مضاف ولا حاجة إلى تقدير مضاف إليه كما قد قيل به أولًا إلا أنه لا خفاء في عدم حسن المقابلة بين التكلم والخطاب على هذا لأن كلا الإثمين إثم المخاطب، والأمر فيه سهل، والجار والمجرور مع المعطوف عليه حال من فاعل {أَن تَبُوء} أي ترجع متلبسًا بالإثمين حاملًا لهما، ولعل مراده بالذات: إنما هو عدم ملابسته للإثم لا ملابسة أخيه إذ إرادة الإثم من آخر غير جائزة، وقيل: المراد بالإثم: ما يلزمه ويترتب عليه من العقوبة، ولا يخفى أنه لا يتضح حينئذ تفريع قوله تعالى: {فَتَكُونَ مِنْ أصحاب النار} على تلك الإرادة، فإن كون المخاطب من أصحاب النار إنما يترتب على رجوعه بالإثمين لا على ابتلاء بعقوبتهما وهو ظاهر، وحمل العقوبة على نوع آخر يترتب عليه العقوبة النارية يرده كما قال شيخ الإسلام قوله سبحانه: {وَذَلِكَ مِنَ الظالمين} فإنه صريح في أن كونه من أصحاب النار تمام العقوبة وكمالها، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وهي من كلام هابيل على ما هو الظاهر، وقيل: بل هي إخبار منه تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ومعنى {أريد}: أريد من إمساكي عن الدفاع.
وأطلقت الإرادة على العزم كما في قوله تعالى: {قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين} [القصص: 27]، وقوله: {يريد الله بكم اليسر} [البقرة: 185].
فالجملة تعليل للّتي قبلها، ولذلك فصلت وافتتحت بـ «إنّ» المشعرة بالتَّعليل بمعنى فاء التفريع.
و{تبوء} ترجع، وهو رجوع مجازي، أي تكتسب ذلك من فعلك، فكأنّه خرج يسعى لنفسه فباء بإثمين.
والأظهر في معنى قوله: {بإثمي} مَا له من الآثام الفارطة في عمره، أي أرجو أن يغفر لي وتُحمل ذنوبي عليك.
وفي الحديث: «يؤتى بالظالم والمظلوم يوم القيامة فيؤخذ من حسنات الظالم فيزاد في حسنات المظلوم حتّى ينتصف فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيّئات المظلوم فتطرح عليه». رواه مسلم.
فإن كان قد قال هذا عن علم من وحي فقد كان مثل ما شُرع في الإسلام، وإن كان قد قاله عن اجتهاد فقد أصاب في اجتهاده وإلهامه ونطق عن مثل نُبوءة.
ومصدر {أن تبوء} هو مفعول {أريد}، أي أريد من الإمساك عن أن أقتلك إن أقدمت على قتلي أريد أن يقع إثمي عليك، فإثم مراد به الجنس، أي ما عسى أن يكون له من إثم.
وقد أراد بهذا موعظة أخيه، ولذلك عطف عليه قوله: {وإثمك} تذكيرًا له بفظاعة عاقبة فعلته، كقوله تعالى: {ليحملُوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الّذين يضلّونهم بغير علم} [النحل: 25].
فعطفُ قوله: {وإثمك} إدماج بذكر ما يحصل في نفس الأمر وليس هو ممّا يريده.
وكذلك قوله: {فنكون من أصحاب النار} تذكيرًا لأخيه بما عسى أن يكفّه عن الاعتداء.
ومعنى {من أصحاب النّار} أي ممّن يطول عذابه في النّار، لأنّ أصحاب النّار هم ملازموهَا. اهـ.

.قال الجصاص:

قَوْله تَعَالَى: {إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِك} فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُود وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ: «إثْمُ قَتْلِي وَإِثْمُك الَّذِي كَانَ مِنْك قَبْلَ قَتْلِي».
وَقَالَ غَيْرُهُمْ: «إثْمُك الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يُتَقَبَّلْ قُرْبَانُك».
وَالْمُرَادُ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِعِقَابِ إثْمِي وَإِثْمِك؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ حَقِيقَةَ الْإِثْمِ؛ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ إرَادَةُ مَعْصِيَةِ اللَّهِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِهَا.
وَمَعْنَى {تَبُوءَ} تَرْجِعُ، يُقَالُ: بَاءَ، إذَا رَجَعَ إلَى الْمَبَاءَةِ وَهِيَ الْمَنْزِلُ، وَبَاءُوا بِغَضَبِ اللَّهِ: رَجَعُوا، وَالْبَوَاءُ: الرُّجُوعُ بِالْقَوَدِ وَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَمْرِ بَوَاءٌ أَيْ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ فِيهِ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)}.
تحقَّق بأنَّ العقوبة لاحِقةٌ به على ما يسلفه من الذَّنب فَرَضِيَ بانتقامِ اللهِ دون انتقامه لنفسه.
وقوله: {أَن تَبُوأَ بإِثْمِى وَإِثْمِكَ} الذي تستوجبه بسبب قتلك إياي، فأضافه إلى نفسه، وإذا رأى المظلوم ما يحلُّ بالظالم من أليم البلاء يهون عليه ما يقاسيه ويطيب قلبه. اهـ.